لا يمكن العودة إلى الطبيعيّ: كيف ستغيّر الكورونا عالمنا؟ | ترجمة

تصميم نتالي ليز | الغاريدان

خاصّ فُسْحةَ - ثقافيّة فلسطينيّة

ترجمة خاصّة بفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، أعدّها أنس إبراهيم.

عنوان المقال بالإنجليزيّة: ‘We can’t go back to normal’: how will coronavirus change the world?

المصدر: "الغارديان".

 

الزمن المضطرب دائمًا زمن التغيير الجذريّ. يعتقد البعض أنّ الوباء فرصة تأتي مرّة كلّ جيل، لإعادة صناعة المجتمع وبناء مستقبل أفضل، ويخشى البعض الآخر أن يجعل الفايروس حالة اللاعدالة القائمة أشدّ سوءًا.  

بيتر سي. بيكر*

 

كلّ شيء يبدو جديدًا، ساحقًا ولا يُصدَّق، وفي الآن ذاته، كأنّه حلم قديم يتكرّر الآن. وبطريقة ما، نحن نحلم فعلًا؛ فقد رأينا هذا من قبل على شاشات التلفاز والأفلام، ورغم أنّنا تقريبًا عرفنا كيف سيكون الأمر، فذلك لم يقلّل من غرابة المواجهة، بل جعلها أكثر غرابة. نحدّث صفحات الأخبار، لا لحسّ مدنيّ بأهمّيّة الأخبار نفسها، بل لأنّ الكثير يمكن وقوعه منذ آخر تحديث. كلّ خبر يحمل تطوّرات جديدة، تطوّرات حدثت بسرعة هائلة يصعب معها تصوّر تطرّفها، تطوّرات كانت ستبدو مستحيلة في شهر شباط (فبراير) المنصرم، وما كان يمكن وقوعها في بضعة أيّام، بل في سنوات.

لتعُد بذهنك إلى الوراء أسابيع قليلة، وتخيّل أحدًا يخبرك بالآتي: المدارس ستُغلَق في غضون شهر من الآن، ستُمنَع التجمّعات العامّة، مئات الملايين من الناس سيتركون أعمالهم، ستضخّ الحكومات أضخم حُزَم تحفيز اقتصاديّة في التاريخ، وفي أماكن معيّنة لن يُحصِّل المُلّاك الأجور، ولن تُحصِّل البنوك أقساط الرهن العقاريّ، وسيُسمَح للمتشرّدين بالمبيت في الفنادق مجّانًا، وستحاول الحكومات توفير الدخل الأساسيّ، وستتشارك مساحات هائلة في العالم - كراهيةً أو طواعيةً - في إجراء المحافظة على مترين بين كلّ شخص وآخر أينما أمكن؛ هل كنت ستصدّق ما كنت سمعته؟

ساعد وباء الإنفلونزا عام 1918 على إنشاء خدمات صحّيّة قوميّة في عديد من الدول الأوروبّيّة، وكانت الحرب العالميّة الثانية والكساد العالميّ العظيم عام 1929 وراء ظهور دولة الرفاه الحديثة.

ليس حجم ما يجري أو سرعته هو ما يصيب بالدوار، بل حقيقة أنّنا اعتدنا سماع عدم إمكانيّة اتّخاذ الديمقراطيّات إجراءات كهذه وبهذه السرعة، أو حتّى بالمطلق. لكن، ها نحن هنا، وأيّ نظرة خاطفة للتاريخ تكشف كيف أعدّت الكوارث والأزمات المشهد للتغيير، الّذي غالبًا ما كان للأفضل؛ فقد ساعد وباء الإنفلونزا عام 1918 على إنشاء خدمات صحّيّة قوميّة في عديد من الدول الأوروبّيّة، وكانت الحرب العالميّة الثانية والكساد العالميّ العظيم عام 1929 وراء ظهور دولة الرفاه الحديثة.

لكنّ الأزمات أيضًا قد تدفع بالمجتمعات إلى طرق مظلمة؛ فقد انفجرت المراقبة الحكوميّة للمواطنين بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) الإرهابيّة، وشنّ جورج. دبليو. بوش حربين امتدّتا إلى احتلال لا نهاية له (بينما أكتب هذا الآن، يتباطأ انسحاب القوّات العسكريّة الأمريكيّة من أفغانستان، بسبب فايروس كورونا، بعد 19 عامًا على الاجتياح). أزمة أخرى هي الأزمة الاقتصاديّة عام 2008، وقد حُلّت بإعادة البنوك والمؤسّسات الماليّة إلى وضعها الطبيعيّ قبل الانهيار الماليّ، بتكلفة حكوميّة هائلة أدّت إلى تقليص الإنفاق الحكوميّ على الخدمات العامّة في أرجاء العالم.

ولأنّ الأزمات تشكّل التاريخ، ثمّة مئات المفكّرين الّذين كرّسوا حياتهم لدراسة كيف تتكشّف الأزمات، في سياق ما يمكن تسميته بـ "دراسات الأزمة"، وهي تدرس كيف يتعرّى الواقع الجذريّ لأيّ مجتمع عند وقوع الأزمات؛ مَنْ يملك أكثر ومَنْ يملك أقلّ، وأين تكمن القوّة/ السلطة، وما يقدّره الناس وما يخافونه. في لحظات كتلك يتكشّف المجتمع بعطبه الموجود أصلًا، غالبًا على هيئة قصص وصور تسكننا فور سماعها. في الأسابيع الماضية امتلأت الأخبار بأعداد لانهائيّة من الأمثلة؛ خطوط طيران تُسَيِّر رحلات فارغة أو شبه فارغة، لغاية الحفاظ على مساراتها الهوائيّة فقط، وتقارير عن تغريم الشرطة الفرنسيّة متشرّدين كانوا في الشوارع خلال الإغلاق، وسجناء في ولاية نيويورك يقبضون أقلّ من دولار في الساعة، لتعبئة علب مطهّر أيدٍ هم أنفسهم لا يُسمح لهم باستخدامه "لاحتوائه على الكحول"، في سجن لا يحصلون فيه على صابون مجّانيّ، بل يشترونه من متجر مؤقّت.

في سياق ما يمكن تسميته بـ "دراسات الأزمة"، وهي تدرس كيف يتعرّى الواقع الجذريّ لأيّ مجتمع عند وقوع الأزمات؛ مَنْ يملك أكثر ومَنْ يملك أقلّ، وأين تكمن القوّة/ السلطة، وما يقدّره الناس وما يخافونه. في لحظات كتلك يتكشّف المجتمع بعطبه الموجود أصلًا

لا تلقي الكوارث وحالات الطوارئ بالضوء على العالم كما هو فحسب، بل تمزّق نسيج الحياة الطبيعيّة أيضًا. لقد خطفنا نظرة من خلال الفجوة الّتي انشقّت على عوالم أخرى ممكنة، بعض المفكّرين الّذين يدرسون الأزمات يفضّلون التركيز على ما سيقع من أخطاء، وآخرون أكثر تفاؤلًا؛ فلا يؤطّرون الأزمات بمنطق الخسارة فحسب، بل أيضًا بمنطق ما قد يُكتسَب أيضًا. ولكن لكلّ كارثة خصوصيّة، بالطبع، ولا يمكن أن تكون خسارة كاملة أو ربحًا كاملًا؛ فالاثنان يتعايشان، وفقط بعد فوات الأوان ستصبح معالم العالم الّذي ندخله الآن واضحة لنا.

 

الأزمة تجعل العالم السيّئ أكثر سوءًا

ترى وجهة النظر المتشائمة أنّ الأزمات تجعل الأشياء السيّئة أكثر سوءًا. أولئك الّذين يدرسون الكوارث، وخاصّة الأوبئة، يعرفون جيّدًا كيف تؤجّج – عادةً - كراهية للأجانب (Xenophobia) وميلًا إلى التضحية بالأعراق الأخرى. عندما وصل الموت الأسود إلى أوروبّا في القرن الرابع عشر، أغلقت المدن والبلدات على نفسها في وجه الغرباء، ونفت وقتلت أفرادًا من المجموعات غير المرغوب فيها واعتدت عليهم، وقد كانت في أغلبيّتها من اليهود. في مدينة نيويورك، وفي عام 1858، اقتحمت عصابة مشفًى للحَجْر الصحّيّ للمهاجرين في جزيرة ستاتن، وأرغمت العاملين على المغادرة، ثمّ أحرقت المشفى خوفًا على مَنْ هم في الخارج من الحمّى الصفراء. ثمّة الآن صفحة خاصّة على موقع ويكيبيديا، تُجمّع أمثلة من أكثر من 35 دولة في العالم على رهاب الأجانب، وعنصريّة مرتبطة بوباء فايروس كورونا، تتراوح بين السخرية والاعتداء الصريح.

يقول المؤرّخ الأمريكيّ الشهير مايك ديفيس، المختصّ في الكوارث المتعلّقة بالعولمة: "في عالم عقلانيّ كلّيًّا، يُفترض أنّ وباءً عالميًّا سيقود إلى تعاون دوليّ أكبر". يرى ديفيس، الّذي كتب كتابًا عن تفشّي إنفلونزا الخنازير عام 2005، أنّ الأوبئة تشكّل حالات مثاليّة فيها الرأسماليّة العالميّة - بتحريكها الدائم للسلع والناس حول العالم - تظهر هشّة بشكل خاصّ، ولا تستطيع العقليّة الرأسماليّة - غير القادرة على التفكير في شيء آخر عدا الربح - معالجتها. "في عالم عقلانيّ، كنّا سنزيد عجلة الإنتاج للإمدادات الأساسيّة الجوهريّة: معدّات فحص وأجهزة تنفّس وأقنعة؛ ليس لاستخدامنا فقط بل أيضًا للدول الفقيرة، لأنّها معركة واحدة. لكنّه ليس عالمًا عقلانيًّا؛ لذلك ثمّة الكثير من الشيطنة والدعوات إلى الانعزال على الذات، وهو ما يؤدّي إلى مزيد من الموتى والمعاناة حول العالم".

في مدينة نيويورك، وفي عام 1858، اقتحمت عصابة مشفًى للحَجْر الصحّيّ للمهاجرين في جزيرة ستاتن، وأرغمت العاملين على المغادرة، ثمّ أحرقت المشفى خوفًا على مَنْ هم في الخارج من الحمّى الصفراء.

في الولايات المتّحدة، حاول الرئيس ترمب جاهدًا توصيف الفايروس بالصينيّ، واستخدام الوباء ذريعةً لتشديد إغلاق الحدود وقبول أعداد أقلّ من طالبي اللجوء، في حين ادّعى المسؤولون الجمهوريّون ومراكز أبحاثهم والإعلام، أو حاولوا الإيحاء، أنّ الفايروس من صنع بشريّ صينيّ لغاية حرب بيولوجيّة. في المقابل، وضمن منطق نظريّة المؤامرة نفسه، ادّعى مسؤولون صينيّون أنّ الفايروس حمله جنود أمريكيّون إلى الصين. وفي أوروبّا صرّح رئيس وزراء هنغاريا حديثًا: "نحن نحارب على جبهتين: الأولى الهجرة والثانية فايروس كورونا، ثمّة رابط منطقيّ بينهما؛ فكلاهما ينتشر عبر الحركة".

وأنت تخوض حربًا، تريد تحصيل أكبر قدر ممكن من المعرفة حول العدوّ، ومن السهل في اندفاع الأزمة وضع وسائل مراقبة قيد الاستخدام دون التفكير في الضرر الناجم عن استخدامها على المدى الطويل. ذكّرتني الباحثة شوشانا زابوف، مؤلّفة كتاب "عصر مراقبة الرأسماليّة"، بأنّه وقبل تاريخ الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، كانت حكومة الولايات المتّحدة في خضمّ تطوير قوانين استخدام، تمنح مستخدمي الإنترنت قدرة حقيقيّة على تقرير كيفيّة استخدام معلوماتهم الشخصيّة. "وفي غضون أيّام قليلة ..."، تقول زابوف: "تحوّل الاهتمام من ’كيف نقيّد انتهاك شركات التقنيّة لقِيَم الخصوصيّة وحقوقها؟‘، إلى ’كيف نرعى هذي الشركات ونحميها؛ حتّى تتمكّن من جمع هذه المعلومات لأجلنا؟‘".

 

المراقبة في حالة الطوارئ: البشر هم العدوّ

من الصعب بمكان تصوّر كارثة أكثر مثاليّة من وباء عالميّ، للحكومات الّتي تسعى إلى رفع مستوى الرقابة على مواطنيها، وللشركات الّتي تسعى إلى الربح من خلال فعل الشيء نفسه. في الصين طائرات بلا طيّار تترصّد الأشخاص الّذين لا يرتدون أقنعة، وعند رصدهم تبثّ توبيخًا شُرَطِيًّا مسجّلًا. وفي ألمانيا وإيطاليا والنمسا وبلجيكا، تُستخدم بيانات مشفّرة من شركات الاتّصالات لرصد حركة الناس. في إسرائيل سُمِح لجهاز الأمن العامّ اختراق سجلّات هواتف الأفراد، وترسل كوريا الجنوبيّة رسائل نصّيّة للعامّة بالأفراد المُشْتَبَه بإصابتهم مع بيانات حول تحرّكاتهم.

ليست المراقبة كلّها خبيثة بطبيعتها، ومن الممكن أن تنتهي التقنيّات الجديدة لتأدية أدوار في محاربة الفايروس، لكنّ قلق زابوف يكمن في تحوّل إجراءات الطوارئ إلى إجراءات دائمة، متغلغلة في حياتنا اليوميّة إلى درجة نسيان غايتها الأساسيّة.

ليست المراقبة كلّها خبيثة بطبيعتها، ومن الممكن أن تنتهي التقنيّات الجديدة لتأدية أدوار في محاربة الفايروس، لكنّ قلق زابوف يكمن في تحوّل إجراءات الطوارئ إلى إجراءات دائمة، متغلغلة في حياتنا اليوميّة إلى درجة نسيان غايتها الأساسيّة.

 

حالات الإغلاق جعلتنا نجلس في بيوتنا ملتصقين بهواتفنا وأجهزة الكمبيوتر، معتمدين بشكل غير مسبوق على شركات التقنيّة الكبيرة الّتي تعرض نفسها بدأب على الحكومات، بوصفها جزءًا حيويًّا من الحلّ لهذه الإشكاليّة، ومن الجدير التساؤل حول غاياتها النهائيّة. "عند التعامل مع شيء كالوباء، بالكاد يتذكّر الناس حقوق الخصوصيّة"، يقول فاسوكي شاستري، الباحث في "Chatham House"، ويدرس التفاعل بين الديمقراطيّة والتقنيّة: "بمجرّد تضخّم أيّ منظومة، يصبح صعبًا إعادة تحجيمها، ومن ثَمّ ربّما تتحوّل إلى استخدامات أخرى".

في غضون أسابيع قليلة، رئيسا وزراء إسرائيل وهنغاريا، مُنِحا سلطة الحكم بمرسوم، بلا أيّ تدخّل من القضاء أو الهيئات التشريعيّة، بينما منح قانون مكافحة فايروس كورونا البريطانيّ الشرطةَ وضبّاط الهجرة السلطةَ لمدّة عامين، من احتجاز أيّ مشتبَه بحملهم الفايروس واعتقالهم حتّى يخضعوا للاختبار. وفي أمريكا، قدّمت وزارة العدل منذ بدء تفشّي الفايروس طلبًا إلى الكونغرس، لإقرار قاعدة جديدة تسمح للقضاء تعليق إجراءات المحاكمة في حالات الطوارئ؛ وهذا يخلق إمكانيّة سجن أشخاص دون أن يتمكّنوا رسميًّا من الاعتراض. "أولئك الّذين يعرفون الشرطة، يعرفون كيف تسير الأمور"، يقول كيفن بلوي من "نتبول"، جماعة بريطانيّة تركّز على حقوق الاحتجاج: "للوهلة الأولى تبدو الإجراءات معقولة كفايةً، ثمّ وبسرعة هائلة، تُطَبَّق لغايات أخرى لا علاقة لها بالديمقراطيّة أو بالسلامة العامّة".

عام 2008، وبتنظيم من اتّحاد الحرّيّات المدنيّة الأمريكيّة، اجتمع فريق من المؤرّخين والمختصّين في الأخلاق الطبّيّة، جرّاء زيادة في تفشّي أوبئة الإنفلونزا في العالم. في تقريرهم النهائيّ، كان ثمّة قلق من ميل الحكومة - الّذي في رأيهم نما بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) – إلى معالجة مشاكل الصحّة العامّة بعقليّة ملائمة أكثر لملاحقة المجرمين ورصدهم، الّتي انتهت إلى التأثير في الأقلّيّات العرقيّة والفقراء. حسب رأيهم، آليّات كهذه تجعل محاربة المرض أكثر صعوبة؛ إذ تؤسّس لانعدام الثقة بين الحكومة والمواطنين، أو كما يصف التقرير: "يصبح البشر، عوضًا عن المرض، العدوّ".

 

"الطبيعيّ" بوصفه الأزمة في حدّ ذاتها

ثمّة مدرسة فكريّة أخرى ترى مقدارًا من الإمكانيّات عند النظر إلى الأزمة. بالنسبة إلى مفكّري هذا المعسكر، يلوح نموذج عام 2008 في الأفق، لكن من وجهة نظرهم، في الوقت الّذي أدّى عام 2008 إلى الهزيمة؛ إذ تربّحت قلّة، بينما أُجبرت العامّة على التخلّي عن الكثير، فإنّ حالة "كوفيد – 19" قد تفتح الباب أمام اختراق سياسيّ.

"في عالم عقلانيّ، كنّا سنزيد عجلة الإنتاج للإمدادات الأساسيّة الجوهريّة: معدّات فحص وأجهزة تنفّس وأقنعة؛ ليس لاستخدامنا فقط بل أيضًا للدول الفقيرة، لأنّها معركة واحدة. لكنّه ليس عالمًا عقلانيًّا؛ لذلك ثمّة الكثير من الشيطنة والدعوات إلى الانعزال على الذات، وهو ما يؤدّي إلى مزيد من الموتى والمعاناة حول العالم".

"أعتقد أنّنا شديدو الاختلاف عمّا كنّا عليه قبل رؤية آثار صدمة عام 2008"، تقول الكاتبة الأمريكيّة ريبيكا سولنيت، من ألمع باحثي الأزمات وتبعاتها، وتكمل: "الأفكار الّتي كان يُنظر إليها على أنّها أفكار يساريّة، تبدو الآن أكثر معقوليّة لعدد أكبر من الناس، ثمّة فسحة للتغيير لم تكن موجودة من قبل، إنّها بداية".

المجادلة بشكلها الأبسط كما الآتي: كشف "كوفيد – 19" عن هشاشة في الوضع السياسيّ الراهن. قبل سماع أيّ واحد بفايروس الكورونا، كان البشر يموتون بأمراض نعرف كيف نمنعها ونعالجها، وعاشوا حياة محفوفة بالمخاطر في مجتمعات متخمة بالثروة، وأنبأنا الخبراء كوارثَ كارثيّة في الأفق، تشمل الأوبئة، ولم نفعل شيئًا للاستعداد لها. في الوقت نفسه، فالإجراءات الصارمة الّتي اتّخذتها الحكومات في الأسابيع المنصرمة، تبيّن مقدار السلطة الّتي تحوزها الدولة، ومدى ما يمكن الحكومة إنجازه "وبسرعة!" عندما تدرك ضرورة التصرّف بجرأة أو المخاطرة باعتبارها فاقدة للشرعيّة. وكتبت بانكاج ميشرا حديثًا: "تطلّب الأمر كارثة لتدرك الدولة مسؤوليّتها الأصليّة بحماية مواطنيها".

لسنوات، كان الاتّجاه التقليديّ في السياسة السائدة في كلّ شيء، بدءًا بالرعاية الصحّيّة لنفقات العيش الأساسيّة كالسكن، أنّ التدخّل الحكوميّ الواسع ليس الحلّ العمليّ لأيّ من مشاكل العالم. وبدلًا من ذلك، قيل لنا إنّ الحلول الفعّالة هي حلول السوق، الّتي تعطي الشركات أدوارًا أكبر لتعمل؛ لا بدافع أفكار عفا عليها الزمن مثل "المصلحة العامّة"، بل بدافع تحقيق الربح. وعندما تفشّى الفايروس أنفقت الحكومات تريليونات في أيّام معدودة، إلى حدّ كتابة شيكّات شخصيّة للمواطنين، وفجأة صار سؤال ما كان ممكنًا يبدو مختلفًا.

في سياق وجهة النظر هذه، تصير المهمّة لا محاربة الفايروس لغاية العودة إلى العمل كما كان من قبل؛ لأنّ العمل كما كان من قبل كان كارثيًّا. عوضًا عن ذلك، الغاية هي محاربة الفايروس، وفي هذا السياق يكون السعي إلى تحويل العمل إلى شيء أكثر إنسانيّة وأمنًا.

"عند التعامل مع شيء كالوباء، بالكاد يتذكّر الناس حقوق الخصوصيّة"، يقول فاسوكي شاستري، الباحث في "Chatham House"، ويدرس التفاعل بين الديمقراطيّة والتقنيّة: "بمجرّد تضخّم أيّ منظومة، يصبح صعبًا إعادة تحجيمها، ومن ثَمّ ربّما تتحوّل إلى استخدامات أخرى".

 

الأزمة في مجالَيها العامّ والخاصّ

في كتابها الصادر عام 2009، "نعيم بُنِيَ في الجحيم"، استخدمت سولنيت حالات دراسيّة لكوارث تشمل زلزال مكسيكو سيتي عام 1985، وهجمات 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابيّة، وإعصار كاتارينا، لتجادل في أنّ حالات الطوارئ ليست بالضرورة لحظات فيها تسوء الأشياء السيّئة أصلًا، أو يصبح الناس خلالها بشكل حتميّ أكثر خوفًا وشكًّا وأنانيّة. لكنّها بيّنت الطرق الّتي بها تؤدّي الكوارث إلى الكشف عن احتياطيّ بشريّ من التضامن والمبادرة والارتجال، وحتّى في وسط الألم والخسارة، أيضًا بعض الأمل والفرح. الكتاب لا يحتفي بالكارثة، بل يحاول دفع انتباهنا إلى الإمكانيّات الكامنة في زمن الكارثة، الّتي من شأنها زعزعة الأساليب القديمة. بكلمات سولنيت: "تميل الاستجابة الرسميّة للكارثة إلى معاملة الناس بصفتهم جزءًا لا بدّ من إدارته من المشكلة، لا جزءًا لا يقدَّر بثمن من الحلّ".

في بعض الأحيان يُفسَّر سوء إدارة الأزمة لمجرّد انعدام الكفاءة، وفي أحيان أخرى يكون أكثر خبثًا. في كتابها الصادر عام 2008، "مذهب الصدمة"، قدّمت الكاتبة الكنديّة ناعومي كلاين، عرضًا سوداويًّا لسياسات الأزمة. في وجهة نظرها، أوّلًا، ثمّة دائمًا الكارثة الأولى: زلزال، عاصفة، صراع عسكريّ، ركود اقتصاديّ. أمّا الكارثة الثانية فهي في الأشياء السيّئة الّتي ينهمك بها مَنْ يملكون السلطة بعد الكارثة، مثل: فرض إصلاحات اقتصاديّة متطرّفة، أو الانشغال بالإثراء الذاتيّ جرّاء الأزمة، بينما بقيّتنا أكثر دُوارًا من أن نلاحظ. وفي الواقع، جادلت كلاين في أنّ بعض هؤلاء الأشخاص يهندسون الكارثة الأولى للبدء بالمرحلة الثانية.

على النقيض من كتاب سولنيت، فـ "مذهب الصدمة" لا يقول الكثير عن مرونة الناس العاديّين عندما تسوء الأشياء بصورة مرعبة، وقد انتقدت سولنيت إغفال كلاين لهذا الجانب، ومع ذلك يلتئم الكتابان مع بعضهما بعضًا كقطع أحجيّة؛ فكلاهما يعالج الأزمة لا بمنطق ما قد يكون حتميًّا أو طبيعيًّا عند وقوعها، بل بمنطق الخيارات الّتي يصنعها الناس على طول الطريق، وكلاهما تَصادف توقيت ظهوره للإسهام في الجدل السياسيّ الدائر بعد الانهيار الماليّ.

بعد أيّام من انتخاب باراك أوباما عام 2008، قال رئيس موظّفي البيت الأبيض، رام إمانويل: "لا تريد أبدًا لأزمة خطيرة أن تذهب سُدًى". لاحقًا، مرغمين، وافق يساريّو الأمس الّذين كان أوباما لهم خيبة أمل، على قول رام، بعد شعورهم بأنّهم قد خسروا في ظلّ الأزمات الأخيرة المتتالية، والآن وقت التعويض عن الخسارة، والسؤال: إن كنّا في أسابيع قليلة في مواجهة الفايروس تمكّنّا من تغيير هذا كلّه؛ فما حجم التغيير الممكن تحقيقه في عام كامل؟

الإجراءات الصارمة الّتي اتّخذتها الحكومات في الأسابيع المنصرمة، تبيّن مقدار السلطة الّتي تحوزها الدولة، ومدى ما يمكن الحكومة إنجازه "وبسرعة!" عندما تدرك ضرورة التصرّف بجرأة أو المخاطرة باعتبارها فاقدة للشرعيّة.

لأيّ شخص يتبنّى هذه المجادلة، فالتناقض بين 2008 والأزمة الحاليّة لافت للنظر؛ فبالمقارنة بأزمة الانهيار الماليّ المُبهَمَة وسط مقايضات الائتمان الافتراضيّ والتزامات الديون المضمونة، تبدو أزمة فايروس الكورونا نسبيًّا أسهل على الفهم. إنّها دزّينة من الأزمات المتشابكة في أزمة واحدة، وجميعها يتكشّف بشكل فوريّ بطريقة لا يمكن إغفال أيٍّ منها؛ فالسياسيّون يصابون، ومشاهير أغنياء يصابون، وأصدقاؤك وأقرباؤك يصابون. قد لا نكون جميعًا في مركب واحد؛ فكالعادة يتلقّى الفقراء الضربة الأسوأ، لكن ثمّة بعض الحقيقة الآن في هذه الفكرة أكثر من عام 2008.

في هذا السياق، يؤمن المتفائلون بوجود أمل في رؤية العالم بشكل مختلف، ربّما نستطيع رؤية مشاكلنا مشاكلَ مشتركة، ورؤية المجتمع لا بوصفه قطيع أفراد ينافسون بعضهم بعضًا على الثروة والمكانة. ربّما، باختصار، قد نفهم أنّ منطق السوق ينبغي ألّا يُهَيْمِن على العديد من مجالات الوجود البشريّ كما نسمح له حاليًّا. "الكثيرون في موقع يمكّنهم من ربط الأمور ببعضها بعضًا"، تقول كلاين: "الأمر يتعلّق بتجارب الناس. لبعض الناس من فئات سنّيّة معيّنة، تجربتهم الوحيدة مع الرأسماليّة كانت بمنزلة أزمة لا نهاية لها، وهم يريدون للأشياء أن تكون مختلفة".

 

الأزمة الظاهرة الخفيّة في المشهد الخلفيّ

ذلك الصوت الصارخ، صوت الطنين المزعج في خلفيّة مشهد فايروس كورونا، هو صوت الكارثة المناخيّة. إن كانت كارثة عام 2008 الكارثة الّتي تريد كلاين وأمثالها من المفكّرين تجنّب تكرارها؛ فالتغيّر المناخيّ الكارثة الكبرى الّتي يرون وقوعها قريبًا، بل يعرفون أنّها حقًّا هنا، ويريدون محاربتها. في الواقع، ومنذ صدور "مذهب الصدمة"، جعلت كلاين من أزمة التغيّر المناخيّ محور عملها المركزيّ، بوصفها حالة الطوارئ النموذجيّة، الّتي يجب انتزاعها من براثن المتربّحين من الوقود الأحفوريّ وممكّنيهم في الحكومة.

قيل لنا إنّ الحلول الفعّالة هي حلول السوق، الّتي تعطي الشركات أدوارًا أكبر لتعمل؛ لا بدافع أفكار عفا عليها الزمن مثل "المصلحة العامّة"، بل بدافع تحقيق الربح. وعندما تفشّى الفايروس أنفقت الحكومات تريليونات في أيّام معدودة، إلى حدّ كتابة شيكّات شخصيّة للمواطنين، وفجأة صار سؤال ما كان ممكنًا يبدو مختلفًا

رغم أنّ "كوفيد – 19" قد يكون الأزمة العالميّة الكبرى منذ الحرب العالميّة الثانية، فهو لا يزال قزمًا على المدى الطويل مقارنةً بالتغيّر المناخيّ. ومع ذلك، فالمشكلتان لهما بعض التشابهات؛ كلتاهما تتطلّب درجة غير مسبوقة من التعاون العالميّ، وكلتاهما تتطلّب تغييرًا في سلوكيّات الحاضر لتقليص آلام المستقبل، وقد توقّع العلماء هاتين المشكلتين قبل وقت طويل، وبدرجة عالية من اليقين، وتجاهلتهما الحكومات غير القادرة على رؤية ما هو أبعد من إحصاءات نموّ الربع الماليّ اللاحق. ومن ثَمّ فكلتا المشكلتان تتطلّبان من الحكومات اتّخاذ إجراءات صارمة، ونفي منطق السوق من مجالات معيّنة من الأنشطة البشريّة، بينما في الوقت ذاته يكون الاستثمار في المجال العامّ. وبكلمات أخرى، إنّ التفكير في المستوى الجديد من التدخّلات الحكوميّة الأخيرة بإجراءات مؤقّتة فحسب، يوازي ضمان استمرار السير في الطريق إلى الكارثة المناخيّة.

"كنّا نحاول منذ سنين انتزاع الناس من الحالة الطبيعيّة إلى حالة الطوارئ"، تقول مارجريت سالومون، المحلّلة النفسيّة السابقة الّتي ترأس الآن مجموعة "The Climate Mobilization"، وتتابع: "ما هو ممكن سياسيًّا، يختلف بصورة جذريّة عندما يدخل الناس في حالة الطوارئ، عندما يقبلون بصورة قاطعة وجود خطر داهم، ولتجنّبه فإنّ عليهم فعل كلّ شيء بوسعهم. وكان مثيرًا للاهتمام كيف جرى التحقّق من هذه النظريّة على أرض الواقع، من خلال الاستجابة لفايروس كورونا؛ يصير التحدّي الآن الحفاظ على حالة الطوارئ وتوجيهها نحو المناخ، حيث المخاطر أكبر حجمًا. لا يمكن التفكير في العودة إلى الطبيعيّ؛ لأنّ الأشياء لم تكن طبيعيّة أصلًا".

"لو أنّنا قبلنا حقًّا وجود حالة طوارئ مناخيّة، لامتلأت الأخبار اليوميّة ببيانات الدول الّتي تسارع إلى تقليل الانبعاثات، وسيكون البشر في صراخ دائم للتأكّد من تبنّي قادتهم السياسات الفعّالة الّتي جرى تطبيقها"، هكذا قالت لي سالومون. ولكن تبقى المقارنة بين الأزمتين محدودة في هذا النطاق، ولا شكّ في أنّ الآثار المترتّبة على التغيّر المناخيّ، أكثر تدرّجًا من تلك المترتّبة على "الكوفيد – 19"؛ فأغلب الناس لا يشعرون بأنّهم أو أحبّاءهم قد يموتون جرّاء التغيّر المناخيّ في الشهر الحاليّ مثلًا، ولذلك؛ فتطبيق حالة الطوارئ والحفاظ عليها يكونان أكثر صعوبة في حالة أزمة التغيّر المناخيّ.

التناقض بين 2008 والأزمة الحاليّة لافت للنظر؛ فبالمقارنة بأزمة الانهيار الماليّ المُبهَمَة وسط مقايضات الائتمان الافتراضيّ والتزامات الديون المضمونة، تبدو أزمة فايروس الكورونا نسبيًّا أسهل على الفهم. إنّها دزّينة من الأزمات المتشابكة في أزمة واحدة، وجميعها يتكشّف بشكل فوريّ بطريقة لا يمكن إغفال أيٍّ منها

 

وجوه أخرى للكارثة

ليس مستحيلًا أن تساعدنا تجربة "الـكوفيد – 19" على فهم التغيّر المناخيّ بشكل مختلف؛ فقد خفّض الفايروس من النشاط الصناعيّ وحركة المواصلات، ونتيجة لذلك انخفض معدّل التلوّث في الهواء. في بداية آذار (مارس) المنصرم، استخدم مارشال بيرك، العالِم في "جامعة ستانفورد"، بيانات التلوّث الخاصّة بأربع مدن صينيّة لقياس مستويات PM 2.5، وهو ملوِّث ضارّ يهاجم الرئتين والقلب بخاصّة. وقد قدَّر أنّه في الصين وحدها، أدّى انخفاض الانبعاثات منذ بداية الوباء، إلى إنقاذ حياة ما لا يقلّ عن 1400 طفل تحت سنّ الخامسة، وحياة ما لا يقلّ عن 51700 بالغ فوق سنّ السبعين. وفي الأثناء، يتشارك الناس من حول العالم قصصهم الخاصّة عبر الإنترنت؛ عن نسمات عذبة، وتوسّع ممرّات الدرّاجات الهوائيّة، وعودة غناء العصافير إلى الأحياء السكنيّة. بطريقةٍ ما، يشبه هذا السلوك الرقميّ الموزّع على أرجاء العالم ما تقوله ريبيكا سولنيت: "ما يخطف أبصار الناس في وسط الأزمة، هو مستقبل يريدونه ويحتاجون إليه".

بجانب هذه المؤشّرات المتفائلة، قصّة أقلّ تفاؤلًا تتكشّف لتلائم الإطار النظريّ لـ "مذهب صدمة" كلاين؛ الكارثة الأولى: "كوفيد – 19"، الكارثة الثانية: تفكيك حتّى القواعد الهزيلة الّتي تحمي البيئة. في 26 من آذار (مارس)، نتيجة للضغط من قطاع صناعة الطاقة، تعلن "وكالة حماية البيئة الأمريكيّة" أنّه نظرًا إلى تأثير الوباء في القوّة العاملة، لن يكون عقاب على أيّ مخالفات لقوانين التلوّث، ما دامت الشركات تمكّنت من ربط هذه المخالفات بالوباء. وفي الصين، بدأت "وزارة البيئة" بتقليص عمليّات التفتيش المتعلّقة بتأثير المنشآت الصناعيّة في البيئة. ولصالح استخدام الأكياس البلاستيكيّة الّتي تُستخدم مرّة واحدة، أطلقت مجموعة مناصرة مدعومة من الصناعات البلاستيكيّة حملة، لدعم ادّعاء غير مؤكّد إلى الآن، بأنّ احتماليّة التصاق الفايروس بالأكياس البلاستيكيّة، أقلّ من احتماليّة التصاقه بنسيج الأكياس القماشيّة القابلة لإعادة الاستخدام. وبالنظر إلى الوراء، إلى أزمة عام 2008، نستطيع رؤية انخفاض الانبعاثات الغازيّة، لكن فقط لتعود بشكل مضاعف خلال عامَي 2010 و2011.

تعتقد سالومون أنّ أحد الدروس المستفادة من أزمة فايروس كورونا، تكمن في قوّة العاطفة المشتركة، الّتي ساعدت على اتّخاذ إجراءات راديكاليّة لإبطاء انتشار الفايروس. "لا أتكلّم على تشارك البشر في خبرات طبّيّة، بل أقصد بشرًا يُهاتفون بعضهم بعضًا، ويقولون: "كيف حالك؟ هل أنت خائف؟ أنا خائف. أريدك أن تكون بخير، أريد أن نكون بخير. وذلك ما نريده أيضًا، في حالة التغيّر المناخيّ. يجب أن نتعلّم كيف نخاف معًا، ونتّفق على ما نحن مرعوبون منه". فقط عندما يحدث ذلك، تقول، ستُرغم الحكومات على الفعل، و"من الجيّد دخولنا في حالة طوارئ بسبب الفايروس"، وتقول: "لكن إن لم ندخلها لأجل التغيّر المناخيّ أيضًا...".

 

إمكانيّات استغلال الأزمة

أيّ نوع من الأفعال يلزم لتحويل الرؤية المتفائلة إلى واقع؟ المؤرّخ فيليب ميروفسكي مؤلّف كتاب "لا تدع أبدًا أزمة كارثيّة تذهب هباءً: كيف نجت النيوليبراليّة من الانهيار الماليّ"، يحذّر من الرضا عن الذات: "ظنّ اليسار أنّ الكارثة أبانت - بشكل واضح للجميع - الإفلاس المطلَق لوجهة النظر الاقتصاديّة السائدة"، وقال: "لكن لم يكن الأمر جليًّا للجميع، وخسر اليسار". إذن، كيف نمنع العالم من العودة إلى ما كان عليه عند انحسار الفايروس، وبقاء بقيّة الكوارث في حالة انفلات؟

إن كانت كارثة عام 2008 الكارثة الّتي تريد كلاين وأمثالها من المفكّرين تجنّب تكرارها؛ فالتغيّر المناخيّ الكارثة الكبرى الّتي يرون وقوعها قريبًا، بل يعرفون أنّها حقًّا هنا، ويريدون محاربتها

"المُخْرَجات السياسيّة لهذا الوباء"، يقول مايك ديفيس، "ستُقَرَّر، كأيّ مُخْرَجات سياسيّة أخرى، بالصراع، صراع التفسيرات؛ بتحديد مسبّبات المشاكل وحلولها. وعلينا أن نجعل هذا التحليل جليًّا للعالم بقدر ما نستطيع". يظلّ التباعد الاجتماعيّ أحد المعوّقات الرئيسيّة، الّذي سيعوّق بالتأكيد العديد من الأساليب الّتي اختُبِرت سابقًا لخوض صراع كهذا، كالاستطلاعات السياسيّة والاحتجاج في الشوارع. "الخطر الأكبر علينا جميعًا"، كما تقول كلاين: "يكمن في إمكانيّة إهدار الجلوس في المنزل على وسائل تواصلنا الاجتماعيّة، ونحن نختبر أشدّ أشكال السياسة محدوديّة من قبل".

يأمل ديفيس أن يجد المحتجّون طريقهم إلى الشوارع آجلًا لا عاجلًا، وخمّن أنّ حركة احتجاجيّة في الشارع يحمل فيها المحتجّون لافتات، ويبتعدون عن بعضهم بعضًا مسافة مترين، ستشكّل صورة إعلاميّة صادمة. يعيش ديفيس في سان دييغو، وقبل نهاية مناقشتنا، ذكر لي أنّه يخطّط لقضاء بعض وقت المساء، ليقف محتجًّا في الشارع، ويحمل لافتة لمّا يحدّد بعدُ ما سيكتب عليها، لكنّه يفكّر في شيء مثل: "ادعموا اتّحاد الممرّضات"، أو "طالبوا بإجازات مرضيّة مدفوعة".

أخبرتني سولنيت بأنّها تأثّرت بكلّ الطرق الّتي ابتدعها البشر حول العالم، ليتواصلوا ويدعموا بعضهم بعضًا، من شبكة التوصيل في الأحياء، لإيصال البقّالة إلى أولئك غير القادرين على الخروج، ووصولًا إلى شيء أكثر رمزيّة، مثل أطفال يعزفون الموسيقى على شرفة جار مسنّ. يقول عالم السياسة الإيطاليّ، أليساندرو ديلفانتي، إنّه يجد أملًا في موجة الإضرابات بعد تفشّي الوباء في مستودعات "Amazon"، في الولايات المتّحدة وأوروبّا، وأيضًا في خطوات اتّخذها عمّال في مختلف قطاعات الاقتصاد الإيطاليّ، لمساعدة بعضهم بعضًا، وتوفير المعدّات الّتي يحتاجون إليها لضمان سلامتهم.

يقول عالم السياسة الإيطاليّ، أليساندرو ديلفانتي، إنّه يجد أملًا في موجة الإضرابات بعد تفشّي الوباء في مستودعات "Amazon"، في الولايات المتّحدة وأوروبّا، وأيضًا في خطوات اتّخذها عمّال في مختلف قطاعات الاقتصاد الإيطاليّ، لمساعدة بعضهم بعضًا

ما سيكون لاحقًا، يعتمد على قدرة المتفائلين على تحويل لحظات تضامن كهذه إلى مجال سياسيّ أوسع، ومجادلة لامنطقيّة التعامل مع "كوفيد – 19" دون حتّى محاولة معالجة كلّ شيء آخر، لخلق عالم فيه مواردنا المشتركة تُشارَك مع عدد أكبر من الناس. "نحن لا نملك حتّى لغة لعواطف كهذه، للحظات فيها يتمازج الرائع والمروّع، والفرح والحزن، والشجاعة والخوف"، وأضافت سولنيت في كتابها "نعيم بُنِيَ في الجحيم" أيضًا: "لا نستطيع التهليل للكارثة، لكن نستطيع تقدير الاستجابة النفسيّة والعمليّة".

يبدو العالم غريبًا ومروّعًا الآن، لكن ليس بسبب، أو ليس فقط بسبب أنّه يتغيّر بسرعة هائلة وأيّ واحد منّا قد يقع مريضًا، أو يكون حاملًا للفايروس ولا يعرف ذلك. بل يبدو غريبًا لأنّ الأسابيع القليلة المنصرمة، أبانت حقيقة أنّ أكبر الأشياء يمكن دائمًا تغييرها وفي أيّ لحظة. هذه الحقيقة البسيطة، المزعزعة والمحرّرة في آن، سهلة على النسيان. نحن لا نشاهد فيلمًا، نحن نكتب فيلمًا، معًا، حتّى النهاية.

 

* كاتب المقالة، صحافيّ أمريكيّ.

 

 

أنس إبراهيم

 

 

كاتب وباحث. حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسيّة من جامعة بيرزيت، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة في الجامعة نفسها. نشر العديد من المقالات في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة في الأدب والسينما.